(قراءة قانونية وفق القانون اليمني ومبادئ المحكمة العليا مع نموذج تطبيقي لحيثيات وأسباب الحكم)
بقلم المستشار/ احمد محمد نعمان مرشد- محامٍ وكاتبٌ يمني
يرتكز العمل القانوني والقضائي عند الفصل في منازعة العقود على قاعدة أن العبرة في العقود للمقاصد والمعاني لا للألفاظ والمباني، ومن هذا المنطلق حسم المشرع اليمني في المادة (577) من القانون المدني تكييف ما يسمى "بيع الوفاء" بصفته إقالة عرفية لها حكم خيار الشرط، وهو ما يترتب عليه بقاء ملكية الرقبة للمدين بدليل استحقاقه لغلة العين ومنافعها طوال مدة الشرط، كما قضت المادة (578) ببطلان العقد والشرط معاً إذا استأثر الدائن بالمنفعة سداً لذرائع الربا المستتر. ويعد النص الوارد في المادة (1004) من ذات القانون هو الركيزة الجوهرية والضابط الحاسم لهذا النوع من المعاملات، حيث قررت بطلاناً مطلقاً لكل اتفاق يمنح المرتهن حق تملك المرهون عند عدم الوفاء بالدين، معتبرة هذا الشرط لغواً لا أثر له ولو نال رضا الطرفين، بما يوجب قانوناً سقوط الشرط الفاسد وبقاء عقد الرهن صحيحاً كوثيقة ائتمان تمنع الاستيلاء على الأملاك خارج رقابة القضاء.
وتتجلى علة هذا الحظر التشريعي الصارم في حماية الطرف الضعيف في العلاقة التعاقدية من الإذعان، ومنع استغلال عوز المحتاجين الذي قد يؤدي إلى فقدان أصولهم العقارية مقابل ديون لا تماثلها في القيمة، مما دفع المشرع إلى قصر حق الدائن في استيفاء أصل دينه فقط عبر إجراءات التنفيذ القضائي بالمزاد العلني ورد ما زاد عن ذلك للمالك.
إن هذا التنظيم القانوني يهدف إلى ضمان استقرار المراكز القانونية وحماية حق الملكية من الزوال بموجب شروط استغلالية تخالف النظام العام، مؤكداً على أن الرهن يظل وسيلة للضمان والاستيثاق لا أداة للتملك المباشر أو المصادرة القسرية للأموال والرقاب العقارية.
ثانيا: المركز القانوني للدائن وضوابط الحيازة الائتمانية:
يترتب على تقرير بطلان شرط التملك التلقائي في عقود رهن الوفاء تحديد المركز القانوني للدائن بكونه حائزاً للعين حيازة أمانة واستيثاق لا حيازة تملك، حيث تقضي القواعد القانونية والفقهية بأن يد المرتهن تلتزم بصون العين وضمانها وردها عند استيفاء الحق، ولا يخول له عقد الرهن التصرف في رقبة العقار بالبيع أو المقايضة أو غير ذلك من التصرفات الناقلة للملكية، وفقاً لما ذهب إليه الدكتور علوي العلوي في دراسته (الرهن الحيازي، مجلة تهامة، ص 144). إن الرهن في التشريع اليمني هو تصرف ائتماني محض غايته توثيق الدين، مما يجعل أي تصرف يصدر من الدائن تجاه العين المرهونة دون إذن صريح ومتجدد من المالك وقت التصرف تصرفاً باطلاً لوروده على ملك الغير وتجاوزاً لحدود الأمانة المقررة قانوناً للدائن.
وتفرض هذه الطبيعة الائتمانية للرهن التزامات محاسبية نافذة على الدائن تهدف إلى منع استغلال حاجة المدين وسد ذرائع الربا المستتر، إذ يحظر على الدائن قانوناً الاستئثار بمنافع العين أو ثمارها دون مقابل؛ حيث نصت المادة (1007) من القانون المدني اليمني على انه"يجوز للراهن او المرتهن كل منهما باذن الاخر استغلال المرهون واذا استغله المرتهن لزمته غلته وتصير رهنا او يحط بها من الدين"وهو ما فصله الدكتور الخزان (تصرفات المرتهن في العين المرهونة، مجلة الجامعة الوطنية، ص 89) بتأكيده أن المشرع اليمني نص على أن غلة المرهون تُحسم من الدين (يحط بها من الدين). بتأكيده أن المنفعة هنا وسيلة لاستيفاء الحق وليست حقاً عينياً مستقلاً للدائن. وتؤكد هذه القاعدة عدم جواز الجمع بين استيفاء الدين وبين الانتفاع المجاني بالعقار، بل تتحول القيمة النفعية للعين فور استيفائها إلى سداد معجل يُحط به من ذمة المدين، مما يثبت أن الدائن يملك حقاً شخصياً في ذمة المدين ولا يملك حقاً يخول له استغلال ملكية الغير لحسابه الخاص.
كما لا يترتب على حلول أجل الدين أو تأخر المدين عن الوفاء أي تغيير في الصفة القانونية ليد الدائن، إذ لا تنقلب يده من يد أمانة إلى يد تملك بمجرد انقضاء المدة المحددة في العقد، بل يظل مسؤولاً عن صون العين وضمان ما يصيبها من تلف نتيجة التفريط، وفقاً لما قرره الدكتور الخزان (المرجع السابق، ص 84) بجزم بطلان التملك المباشر. ويبقى حق المدين قائماً في استرداد ملكه متى قام بالوفاء بالدين، لكون حلول الأجل واقعة تبيح للدائن البدء في إجراءات المطالبة القضائية بالتنفيذ الجبري والبيع بالمزاد العلني وفقاً للمادتين (1014، 1019) من القانون المدني، ولا تمنحه أي سلطة ذاتية للمصادرة أو التملك المباشر خارج إشراف القضاء، ضماناً لحماية الملكية الخاصة واستقرار المراكز القانونية وتجنباً لأي تغول على حقوق الملاك تحت ستار العقود المشروطة.
ثالثا: القواعد القضائية والمبادئ المستقرة:
تمنح المبادئ القضائية المستقرة الأطر التشريعية قوتها الإجرائية النافذة، حيث تصدت المحكمة العليا لمحاولات الانفراد بالتصرف في العين المرهونة خارج رقابة القضاء، مرسخةً قواعد متعلقة بالنظام العام لا يجوز الاتفاق على مخالفتها. ومن ذلك ما قررته الدائرة المدنية في القاعدة رقم (51) - الطعن رقم (26609) لسنة 1427هـ، وموجزها (بيع المرهون)، حيث قضت في نصها بأنه: "لا يجوز للمرتهن بيع المرهون إلا بإذن الراهن أو بحكم قضائي متى توافرت المصلحة". ويتسق هذا المبدأ مع تكييف طبيعة يد الدائن التي حسمتها الدائرة التجارية في القاعدة رقم (14) - الطعن رقم (121) لسنة 1425هـ، وموجزها (الرهن وحق المرتهن في حجز المرهون)، إذ نصت على أن: "من حق المرتهن شرعاً وقانوناً حبس المرهون حتى يستوفي دينه ويضمن ما تلف أو نقص من قيمة المرهون بتعديه أو تفريطه في حفظ المرهون". وتؤكد هذه القواعد مجتمعة أن سلطة الدائن مقتصرة قانوناً على حبس العين كضمان، وتنتفي عنها أي سلطة للتملك المباشر أو البيع المنفرد عند انقضاء الأجل، مما يوجب بطلان الإجراءات التي يتخذها الدائنون لتملك العقارات المرهونة خارج ولاية القضاء.
ولحسم اللبس حول تكييف العقود التي تتخذ صورة البيع وتخفي حقيقة الرهن، وضعت المحكمة العليا معياراً فنياً في القاعدة رقم (49) - الطعن رقم (27190) لسنة 1427هـ، وموجزها (التمييز بين البيع النافذ والبيع المشروط)، حيث قررت في نصها أن: "البيع النافذ هو البيع الذي لا شرط فيه ولا خيار". وبإنزال هذا المبدأ على "بيع الوفاء" الذي يتضمن خيار الرد والشرط الفاسد، ينتفي عنه وصف البيع الناقل للملكية، ويظل محكوماً بقواعد الرهن التي تمنح الدائن حق الأولوية في استيفاء الدين دون تملك الرقبة، وهو ما عززته القاعدة رقم (28) - الطعن رقم (22291) لسنة 1426هـ، وموجزها (حقوق الأولوية للدائن المرتهن)، والتي نصت على أنه: "لا يجوز إهدار حقوق الأولوية أو الامتياز عند التنفيذ إذا تدخل أصحابها عند ذلك ولو لم يكن لديهم سندات تنفيذية". وبناءً عليه، فإن مراكز الأطراف تتحدد بكون الدائن صاحب حق أولوية يُمارس عبر إجراءات التنفيذ الجبري والبيع القضائي بالمزاد العلني ورد ما زاد عن الدين للمالك، ولا يمتد هذا الحق لتملك العين بموجب شرط باطل لمخالفته المبادئ القضائية الآمرة التي تحمي الملكية الخاصة.
كما تمتد رقابة المحكمة العليا لتشمل بطلان أي صلح أو تحكيم يقرر تملك المرتهن للعين المرهونة بالمخالفة للإجراءات القانونية الوجوبية، حيث تعتبر القواعد القضائية أن تمليك الدائن للرهن بناءً على اتفاقات مسبقة أو محاضر صلح تخالف المواد (1004، 1007) من القانون المدني يعد خطأً فاحشاً في تطبيق القانون ومخالفةً جسيمة للنظام العام.
و هذا التوجه القضائي يرسخ حقيقة أن حماية الراهن من شروط المصادرة هي قاعدة آمرة تهدف لضبط الائتمان ومنع استغلال عوز المحتاجين، وبذلك فإن أي حكم أو قرار يبنى على نفاذ شرط التملك التلقائي عند انقضاء الأجل هو حكم مخالف لمبادئ المحكمة العليا المستقرة التي جعلت من القضاء المنصة الوجوبية لتنفيذ الرهون واستيفاء الحقوق، مما يوجب تكييف هذه المعاملات وفقاً لجوهرها الائتماني ضماناً لحماية المراكز القانونية من أي تدليس عقدي يهدف إلى سلب الأملاك بغير حق.
رابعا: التطبيق القضائي (محصل النزاع والأسباب والمنطوق):
أولاً: محصل وقائع النزاع:
تتلخص وقائع الدعوى في تقدم المدعي (الراهن) بعريضة دعوى، مفادها أنه اقترض مبلغاً من المال من المدعى عليه (المرتهن) وحرر له ضماناً لذلك عقد "بيع وفاء" انصب على عقاره المسمى (......) والمحدد في العريضة، وتضمن العقد شرطاً بانتقال الملكية للدائن إذا لم يسدد الدين في الأجل المحدد. وبحلول الأجل، تمسك المدعى عليه بملكية العقار وامتنع عن رده، طالباً في رده رفض الدعوى وإعمال شرط العقد استناداً لقاعدة "العقد شريعة المتعاقدين". وحيث حصر المدعي طلباته في: إبطال شرط التملك، وتكييف العقد كرهن، واستعادة عقاره.
ثانياً: أسباب الحكم وحيثياته:
وحيث إن المحكمة قد اطلعت على أوراق القضية، ولما كان "تكييف العقد" هو المدخل القانوني السليم للفصل في النزاع؛ وحيث إن الثابت من العقد المبرم بين الطرفين أنه تضمن "خيار الاسترداد" عند الوفاء بالثمن (الدين)، فإن هذا التصرف - وإن تسمى بالبيع - هو في حقيقته "إقالة عرفية" لها حكم خيار الشرط وفقاً لصريح نص المادة (577) من القانون المدني، مما يبقي ملكية الرقبة للمدعي بدليل بقاء الغلة له طوال مدة الشرط وحيث تمسك المدعى عليه بنفاذ "شرط التملك التلقائي" لانقضاء الأجل؛ ولما كانت المادة (1004) من القانون المدني قد نصت قطعياً على أنه: "إذا اُشترط أن يكون المرهون للمرتهن عند حلول أجل المرهون به، كان الشرط باطلاً والرهن صحيحاً"؛ فإن هذا النص يعد "برهاناً" قاطعاً على بطلان الشرط الذي يتمسك به المدعى عليه لمخالفته النظام العام
وعلة التشريع التي توخت حماية المدين من استغلال الضرورة وسد ذرائع الربا، ويترتب على ذلك سقوط الشرط الفاسد وصحة عقد الرهن كوثيقة "استيثاق" لا تخول المرتهن سوى حق الحبس والأولوية.
وحيث إن يد المدعى عليه على العين هي "يد أمانة" لا "يد تملك"، وفقاً للمبدأ المستقر عليه في قضاء المحكمة العليا (الطعن رقم 121 لسنة 1425هـ)؛ وحيث إن انقضاء الأجل لا يقلب يد الأمانة إلى يد ملك، ولا يمنح الدائن سوى حق المطالبة بالتنفيذ الجبري عبر القضاء؛ فإن امتناع المدعى عليه عن رد العقار للمدعي - المستعد للوفاء بدينه - يعد غصباً وتعدياً على ملك الغير بلا مسوغ شرعي، مما يتعين معه إجابة المدعي لطلباته، تأسيساً على أن الرهن غايته الضمان لا المصادرة القسرية للأملاك.
وعليه ولـلأسـبـاب السالف ذكرها حكمت المحكمة بالآتي:
١- قبول الدعوى شكلاً وفي الموضوع بطلان شرط التملك الوارد في العقد المبرم بين الطرفين المؤرخ .../.../.
٢- ثبوت صفة العقد سند الدعوى كعقد "رهن حيازي" لا عقد بيع بات.
٣- إلزام المدعى عليه بإخلاء العقار محل الدعوى وتسليمه للمدعي حالاً، مقابل استيفاء دينه الثابت.
٤- إلزام المدعى عليه بمخاسير التقاضي مبلغاً وقدره (......).
صدر هذا الحكم بقاعة المحكمة بتاريخ .../.../1447هـ الموافق .../.../2025م.
الأقسام:
ثقافة قانونية
مقالات
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق